
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أصحاب المعالي الوزراء؛
أيها الحضور الكريم؛
يسعدني أن أكون بينكم اليوم أتفيأ معكم ظلال أرض المجاهدين والشهداء، نستنشق معََا عبق التاريخ الزكي بهذه المناسبة الثقافية البهية؛ مناسبة "الجزائر عاصمة للثقافة الحسانية" التي تنظمها وزارة الثقافة والفنون.
وإنها لمبادرة أصيلة، تنبض بعمق الإدراك والوعي بقيمة هذا الموروث الثقافي الباهر، الذي يشكّل أحد أبرز ملامح وتجليات الذاتية الحضارية لفضائنا الصحراوي الكبير الممتد بعيدا في الزمان والمكان على خارطة لا ترسمها الجغرافيا فحسب؛ وإنما ترسمها، قبل ذلك، اللغة والذائقة والذاكرة والهوية.
• أيتها السيدات والسادة؛
حين نحتفي بالحسانية، فإننا نحتفي بذلك اللسان الجميل المكتنز مجازا ورمزا؛ ذلك اللسان الذي رسمته ألسنة الرمل وظلال الخيام وحنين النوق وأريج الكتب وصهيل الخيل؛ إنه شذا الصحراء حين تنثر في القلوب نشيد البادية والأصالة والانتماء والجمال.
إن الحسانية جوهرة لغوية نادرة تتجاوز مهمة التواصل والتعاطي لتشكل منظومةً متكاملةً من الأخلاق والقيم والمثل والمفاهيم، حاملة صفاء الصحراء، وصدق الصحراء في دواوين الشعر والأمثلة والحكمة والسرديات، وفي متون الفقه والأصول واللغة والتاريخ والفلسفة.
من هنا؛ فإن الثقافة الحسانية لا تعتبر امتدادًا فقط للغة؛ وإنما هي امتداد -أكثر من ذلك- للكينونة، واستحضارٌ للتاريخ والماضي، عبر أحاديث الفتوة وأشجانها، إنها نمط حياة تسوسه المروءة والكبرياء والأنفة والعزة والشجن والبوح والأريحية والإرادة والنزوع إلى الحياة.
• أيها الجمع الكريم؛
لقد جئتكم من احد اهم حواضن الحساني معقلها ورباطها ، الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ومركز إشعاعها العلمي والأدبي، فهناك نمت وترعرعت وشبت "" وهناك، كذلك، أخذت زخرفها وازينت، بعد أن اقتنصتها قرائح الشعراء، ونوازل الفقهاء، وحكايا الجدات، وترانيم الرعاة.
فمن بين تلك الربى والتلال ناغى الصغار أول مرة بالحسانية، ومن بينها، أيضا، خرجت قواميسها العلمية والأدبية ثرية معنى ومبنى؛ فصدح بها إنشاء وإنشادا شعراؤها وأدباؤها وعلماؤها وفقهاؤها وفنانوها.. فتغنى بها ولد أنجرتو، وترنم بها ول هدار، وصدح بها محمود امانه.. شدوا بها شعرا ونثرا، دون إيقاع، وعلى وقع "أزوان" حين تلاعب الأنامل "التيدنيت" أو "آردين" أو "الگمبره" أو "الگيتار"، أو حين تشاكس رقصات الزفير ثقوب"النيفاره".
ثقافة تعاطتها تلك البلاد منذ عديد القرون، وتداولها المئات، بل الآلاف من قامات الأدب الحساني الموريتاني السامقة، وما زالت مفرداتها العميقة تشنف الأسماع بكل أناقة وشعرية، راسمة مسارات فاتنة من الجمال والالتزام والمعنى، معبرة عن كل المشاعر التي يمكن للإنسان حملها من فرح وترح وحب وكره، وحتى لا مبالاة.
من فوق تلك التلال تعاطى سمار الأدب الحساني كل أغراض الشعر المألوفة من نسيب وفخر وغزل ومديح ومدح وهجاء ورثاء... وتداعت إلى لياليهم كل بحور الشعر الحساني من "امريميده" إلى "بوعمران" إلى "لبير" إلى "التيدوم" إلى "البت لكبير" ولبتيت التام" بل أكثر من ذلك ابتكر الأدب الحساني قالبا أدبيا خاصا بالنساء، إنه "التبراع" ذلك الفن الأدبي الذي امتاز بالاكتناز والشجن والعفة.
إنه سمر باذخ يأخذك على قطار أزوان متنقلا بك بين "كر" و"فاغو" و"لكحال" و"لبياظ" و"بيگ" عبر محطات ثلاث هي "الجّانبه الكحله" والجّانبه البيظه" و"لگنيديه" إنه عالم خاص جدا يعيش قسرا بين ثنائية الأوتار والكلمات.
ولقد واكبت الثقافة الحسانية عندنا، أيضا، حركة التدوين والبحث العلمي، فصدرت عنها عشرات البحوث والأطروحات والكتب والمعاجم والمقاربات النقدية، مما أتاح فهماً أعمق لبنياتها المعجمية والدلالية والأسلوبية، وجعل منها حقلًا علميًّا رحبًا، مفتوحًا على الدرس الأكاديمي والفني على حد سواء.
• أيها الحضور الكريم؛
إن اختيار الجزائر، ذات الإرث الثوري والثقافي العريق، لتكون عاصمة للثقافة الحسانية، هو اختيار بليغ الدلالة؛ لأنه يؤكد أن الحسانية موروث مشترك لأبناء هذا الفضاء الحر الذي لم تعرف حدوده القيود الإدارية إلا حديثا؛ وإنما رسمته القوافل والقصائد والمجالس، والعلاقات الأخوية الإنسانية الضاربة في الجذور.
وإن الجمهورية الإسلامية الموريتانية، بوصفها احدى اهم حواضن للحسانية، تتلقى هذا التكريم بتقدير كبير، وترى فيه لحظةً مشرقةً من لحظات التعاون الثقافي الأخوي بينها وبين الجزائر، تعبيرًا عن عمق الوشائج التي تربط البلدين، والتي تتجاوز الجغرافيا والسياسة، لتطال مجالات الفكر واللغة والإبداع، وكل المشترك الثقافي والحضاري.
• أيها السادة والسيدات؛
لا يخفى على أحد أن التحديات التي تواجه الثقافة الحسانية –كما تواجه سائر الثقافات الوطنية– تتجلى في الزحف الجارف للعولمة، وتآكل الذاكرة، وتراجع أدوات التوريث الشفهي،
ومن هنا، فإن هذه التظاهرة –بما تحمله من مضامين ورهانات– تمثل فرصة ثمينة لتجديد العهد مع هذا الموروث، وتطوير أدوات صونه وتوثيقه ونقله، وتمكين الأجيال الجديدة من التفاعل معه ليس كتراث جامد؛ بل كمصدر للهوية، وأفق للإبداع، ومجال للإنتاج الثقافي والفني والتنموي.
وفي هذا السياق، فإننا في وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان في موريتانيا، نعكف على تنفيذ استراتيجية وطنية للنهوض بالثقافة الحسانية، تشمل التوثيق، والدعم المؤسسي، وتطوير الصناعات الإبداعية ذات الصلة، وتعزيز حضور الحسانية ، وتشجيع البحوث الأكاديمية، وتنظيم المهرجانات المتخصصة.
• أيها الجمع الكريم؛
لقد أولى فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الثقافة عناية بارزة، إدراكًا منه لما تمثله من مركزية في الحفاظ على الهوية الوطنية وصون الذاتية الحضارية، وكانت اللغات الوطنية في طليعة ذلك، بما فيهم اللغة الحسانية.
وقد شكلت هذه الرؤية بوصلة لدى حكومة معالي الوزير الأول، السيد المختار ولد اجاي؛ فعملت على تجسيدها واقعًا ملموسًا، عبر تنفيذ سلسلة من المشاريع والاستراتيجيات الهادفة، لعل من أبرزها استحداث مهرجانات وطنية عامة وأخرى متخصصة تُعنى بالثقافة الحسانية، وتطوير المهرجانات القائمة
كما تم استحداث اتحاد للادب الشعبي بما يعكس إرادة واضحة في إنصاف هذه الثقافة وتمكينها من أداء دورها في بناء الوحدة والتنوع.
أيها الحضور الكريم؛
إن ما يجمع موريتانيا والجزائر أعمق من أن يُختزل في العلاقات الرسمية، إنه تاريخ مشترك من الكفاح، وأفق مشترك من الأمل، وأرضية واحدة من الثقافة.
وها نحن اليوم نكتب صفحة جديدة من هذا التاريخ الثقافي، من خلال هذه التظاهرة المباركة، التي نرجو أن تكون فاتحة لمبادرات أخرى، ترسّخ البعد الثقافي في علاقاتنا الثنائية،
وختامًا، أبارك لكم هذا الحدث الثقافي البارز، وأثمّن عاليًا الجهود التي بذلتها وزارة الثقافة والفنون الجزائرية خدمة للثقافة الحسانية، راجيا أن يظل ذلك الجهد والعطاء متواصلا.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته