«المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي» للكاتب علي محمد الشرفاء الحمادي

في الحلقة الثامنة من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي” للمفكر العربي علي محمد الشرفاء يواصل المؤلف الحديث عن “أركان الإسلام بين الاختزال والاستغفال” وفي هذه الحلقة يتحدث الكاتب عن كيفية اختزال أركان الإسلام في معاملات خمس فقط سميت بأركان الإسلام، بينما غاب عن الناس أصل الدين ومقاصده العليا، تلك التي يدعو إليها القرآن، والتي تجسّد في حقيقتها الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبله، بما شملته الرسالة من تقويم للفرد وبناء شخصية المسلم بمجموعة من الأخلاق والفضائل والقيم النبيلة لخلق مجتمعات مسالمة يتحقق فيها العدل والرحمة والحرية والتعاون فيما بين أفرادها وكيف أنّ أركانَ الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج هي وسائل تُذَكِّر الإنسانَ بتلك التشريعات الإلهية والقيم والمبادئ التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، التي يجب على الإنسان أن يلتزم بها قولًا وعملًا حيث يؤدي تكاليف العبادة ويلتزم بما جاء من معاملات وتشريعات ويعمل صالحًا فينال بذلك سعادتَه في الدنيا وسعادتَه في الآخرة

وإليكم الحلقة الثامنة الجزء الثاني من (أركانُ الإسلام بَينَ الاختِزالِ والاستِغفَالِ)

لو تدبرنا كتاب الله حق التدبّر، لوقفنا على الأمر من دون لبس أو إبهام، فالإسلام يقوم بنيانه على الأخلاق، وما تكاليف العبادات إلا وسائل تصل بنا لتمام التوحيد والسمو الأخلاقي وتطهير النفس وتزكيتها.

فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر من ظلم وأكل أمول الناس بالباطل ونقض العهود والنميمة والاشاعات والاعتداء على الناس دون وجه حق والتعاون على الاثم والعدوان , والزكاة مهمة في مساعدة الفقراء والمساكين وتقليص الحاجز النفسي بين الاغنياء والفقراء والتعامل معهم بالرحمة والاحسان ذلك يحصن المجتمعات من السرقة أو الاعتداء على الاموال وتطهير النفس من الشُّح، وتعتبر الزكاة عَبادة عظَّمها الله سبحانه وجعلها دائمًا مقترنة بالصلاة، حيث قوله تعالى (وَأقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، وبتنفيذ الطاعة لله يتحقق بذلك للإنسان اليقين بأنَّ الله سيعوِّضه عما أنفق وتتأكد ثقته في وعد الله، فما عند الله من رزق لا ينفد، كما تطهر الزكاة النفس من الجشع والخوف من نقص المال ليؤمن الإنسان بأنّ مَن رزقه في الماضي لن يتخلّى عنه في المستقبل.

وحج بيت الله الحرام، حيث يرى الناس أنفسهم جميعًا من شتى بقاع الأرض متساوين في الملبس والمسكن، تذوب الفوارق بين الناس حينما يتساوى الملك والصعلوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكل أعناقهم مشرئبة للسماء والكل ينادى لبيك اللهم لبيك والله أكبر مما نخاف ونحذر فلا كبير غير الله ولا غني غير الواحد الأحد وَلَا ملك غير الحي القيوم.

يستهدف حج بيت الله التعارف بين المسلمين من أجل تحقيق مصالح ومنافع بينهم، حيث يقول سبحانه تعالى (لِيَشهَدَوا مَنافِعَ لَهُم وَيَذكَرُوا اسمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعلوماتٍ عَلىٰ ما رَزَقَهُم مِن بَهيمَةِ الأنعامِۖ فَكُلوا مِنها وَأطعِمُوا البائِسَ الفَقيرَ) الحج 28 وتحقق تلك الرحلة الدينية ممارسة عملية في التواصل بين الناس والتعارف كما يتخلى الإنسان عما لحقه من شوائب وآثامه في حياته الماضية يلجأ إلى الله بالذكر والدعاء أثناء الطواف والسعي، حيث يرى كل إنسان مشغولاً بنفسه وكل إنسان يسعى ملبيًا وداعيًا الله أن يغفر له ما اقترفه من ذنوب راجيًا توبته ورضاه، فيدرك الإنسان بعد عودته، من الحج أو العمرة، إلى وطنه يراجع حساباته ويؤكد استمرار صلته مع الله في عبادته وعمله، حيث يعود إلى رشده ويدرك حقيقة خلقه ويستمد الطاقة من ربه وترتقي بذلك نفسه، يرجع لوطنه وقد ازداد إيمانًا وأدرك قيمة الحياة فهي متاع الغرور ليصحِّح من سيرته فيتحسَّن سلوكه ليعيش حياة سعيدة مطمئنة وراضية بما قسم له الله من رزق وصحة .

 

وأما الصوم في شهر رمضان، فهو التزامٌ بطاعة الله وتدريب النفس على السيطرة على الشهوات وكبح جماحها عن كل ملذات الحياة والانقطاع لعبادة الله وحده، والتحلي بالأخلاق الفاضلة بممارسة التسامح مع الناس والإحسان إليهم والإعراض عن اللغو، ولا يتعالى على خلق الله ولا يأكل أموال الناس بالباطل وأن يتحلى بالصدق والوفاء بالعهود والعقود وعدم الاعتداء على الناس باللسان أو باليد، والابتعاد عن النميمة يطهر النفوس فترتقي إلى مصاف عباد الرحمن الذين استقاموا على الصراط المستقيم وتسابقوا إلى الخيرات وعملوا الصالحات.
فكل الشعائر والعبادات هي وسائل لتلك المقاصد الأخلاقية، ذلك أنَّ الإسلام يتمحور في عنوان الأخلاق العالية التي دعا إليها القرآن، وهي نفسها الأخلاق التي دعا إليها الأنبياء والتزموا بها عليهم السلام حتى مبعث الأمين محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

إذن لا يوجد نصٌّ في القرآن جاءت آياته تقول إنا أرسلنا رسلنا ليقيم الناس الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذه ليست مقاصد الخالق سبحانه ومراده لخلقه، وإنما هي فرائض وشرائع ليست مطلوبة لذاتها، وإنما وسائل مطلوبة لغيرها، وهو تحقيق العبودية لله تعالى والاستخلاف وعمارة الأرض، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل معهم كتبه ليقوم الناس بالقسط في كل الأعمال الخيرّة والفضائل والأخلاق التي من موجباتها الارتقاء بأخلاقيات الإنسان حتى لا يفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس ويسفكوا الدماء، ولكي يخلف بعضهم بعضًا ويعمروا الأرض حق عمارتها، ليكونوا قد أدوا الأمانة فينالوا بذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة.

من هنا كانت هذه العبادات في القرآن الكريم وسائل تؤدي إلى غاية من الغايات أو هدف عظيم، فالصلاة في المفهوم القرآني وسيلة يستعان بها لما هو أعلى منها (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة 45)، وكذلك الصيام هو وسيلة فقط إلى غاية تسمى التقوى (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ/ البقرة: 183)

فالغاية هي التقوى كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21)، والتقوى هي أداء تكاليف العبادات كما أمر الله والخوف منه يوم الحساب الذي يمنعه من ارتكاب كافة أنواع المعاصي و كفّ الأذى والعدوان والبعد عن الظلم والبغي، والتقرب إلى الله بتلاوة القرآن والتدبر في آياته واتباع ما أحلَّ الله وما حرمه.. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ/ المائدة: 2 )

إنَّ الله يأمر المسلمين بالتوسع في أعمال الخير والإحسان والتعاون في كافة سبل الخير والإصلاح بين الناس والتكافل في مساعدة المحتاجين ورفع الضرر عن المظلومين والامتناع كليًّا عن مساعدة الظالمين وإعانة المعتدين واتباع سبل العدل والدفاع عن الحقوق.

وقد اُبتليت الأمة ببعض فقهاء السوء، خدعوا الناس باجتهاداتهم وما استمدوها من روايات تدعم استنتاجاتهم لصرفهم عن الخطاب الإلهي للناس وعمل هؤلاء بدعوتهم إلى حصر الأركان في العبادات، وعملوا على إلهاءالناس وصرفهم عن الغايات والأهداف العليا للإسلام واستبدالها بالوسائل، لأنَّ العبادات سهلة التطبيق ولا تحتاج إلى جهد في مجاهدة النفس وتطويعها وكبح جماحها في تدريبها على أخلاق القرآن وفضائله النبيلة التي أمر الله المسلمين بأن يلتزموا بها في معاملاتهم وسلوكياتهم.

وليس في كل الأحوال تكون النوايا حسنةً والمقاصدُ طيبةً، بل إننا نستشعر أنَّ حملات استهداف الأمة فكريًّا وعقائديًّا كانت الروايات والإسرائيليات تقف خلف هذا الهدف للحيلولة دون قيام الأمة ونهوضها لينشغل المسلمون في دوامة المناظرات والفلسفات المستوردة من أوروبا والانزلاق في تصديق الروايات التي فرَّقت المسلمين شيعًا وطوائف وأحزابًا يقاتلون بعضهم بعضًا في حين نقرأ في القرآن أنَّ النبي جعله الله رَحمَةً لِلعَالميَنَ بقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107)

ثم لا نرى هذه الرحمة عند المسلمين، ونقرأ أنَّ القرآن ذِكرٌ لِلعَالمينَ، حيث يقول سبحانه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) القمر 17 وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) فاطر 29، ثم لا نراهم يتلون القرآن ولا يتدبرون ما فيه من حكم ونصائح ولا يتفكرون في خلق السماوات والأرض أو يستنبطون منه التشريعات اللازمة لضبط نظم الحياة ومتطلباتها من قوانين تنظم حياة المجتمعات الإسلامية بتشريعات وضوابط لسلوكيات أفراده.

 

ذلك أنَّ حشد الروايات الملفّقة، وفتاوى علماء السلطان على مرِّ العصور كانا سببًا في هذا الالتباس الذي نراه في فهم المسلمين لأركان الإسلام الخمسة وإذا أردنا العودة للتعرف على رسالة الإسلام قبل هذا التغيير فلابد من العودة لمصدر الإسلام الأول قبل حدوث هذا التبديل الكبير والتقصير عندما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعلم اصحابه الحكمة وما ترمى Yليه مقاصد آيات القرآن الكريم ويرشدهم لاتباع المنهج الالهي لدين الاسلام لنقف على أركان الإسلام الكاملة لا المختزلة، والتي على رأسها الأخلاق والعدل والرحمة والحرية والسلام والفضيلة وتحريم الفساد في الأرض والتي نادت بها دعوات الأنبياء جميعًا في مختلف العصور.

تأتي الرسالات لتؤكّد أنَّ الله قد خلق الإنسان على هيئة من العلوّ والرفعة ارتقت به عن سائر مخلوقاته بقوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء 170)، مع تكريم الله للإنسان سخَّر له كل الثروات التى على الأرض وما فى باطنها، فهو مخلوقٌ لإعمار هذه الأرض بالعلم والمعرفة التي علمه الله الأسماء كلها عند خلق (آدم) لتوظيف نعم الله لما ينفع الناس ويحقق لهم متطلبات العيش الكريم بقوله سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية 13.

كل تلك النعم تتطلب من الانسان البحث والتفكير والدراسة العلمية فى معرفة عظمة الخالق فى قوانين الكون ليزداد الناس إيمانا بقدرته المطلقة اضافة على ما يصل الانسان اليه من معرفة فى توظيف نتائج أبحاثه العلمية فى استغلال الثروات الطبيعية لصالح الانسان كما أمرنا الله فى الآية المكورة أعلاه ولما ينفع الناس فى حياتهم الدنيا من مأكل وشراب ووسائل الراحة وغيرها من متطلبات الحياة والشكرً لله بالمحافظة على تلك النعم والقيام بواجباتها لتنفع الناس جميعًا، إضافة إلى ما يجب اتباعه من الخُلق الكريم والتسمك بالفضيلة أساسها الرحمة والعدل والمحبة والتعاون والإحسان والسلام.

أحد, 03/04/2022 - 17:45