
د. حسن حماد- عضو الهيئة الاستشارية لمركز رع للدراسات
منذ فترة وجيزة صدر الجزء الخامس من سلسلة “ومضات على الطريق” للمفكر الإماراتي علي محمد الشرفاء الحمادي، وبذلك تكتمل ملامح هذا المشروع الفكري الكبير الذي سعى الشرفاء لتأسيس لبناته الأولى منذ عدة سنوات. وقد ظهرت الملامح الأولى لهذا المشروع منذ أن أصدر كتابه “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”، والذي يعتبر بمثابه منيفستو هذا المشروع.
ومضات على الطريق في أجزاءه الخمسة يتضمن قضيتين أساسيتين تشكلان جوهر ثقافتنا المعاصرة: القضية الأولى هي أزمة التشرذم العربي والقضية الثانية هي أزمة الخطاب الديني.
في الجزأين الأول والثاني يتصدى الشرفاء للقضية الأولى. فقد جاء الكتاب الأول تحت عنوان “دراسات ومشاريع حلول لمواجهة المستقبل العربي”. وجاء الكتاب الثاني بعنوان: أحوال العالم العربي (حوار واستفسار). وفي الكتابين نجد رصداً موضوعياً ودقيقاً لأهم المخاطر والتحديات والتهديدات التي تواجه عالمنا العربي، ثم نجد أيضاً حلولاً ومقترحات وسيناريوهات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وللخلاص من هذا الوضع الكارثي. وفي هذا الصدد يؤكد الشرفاء على بُعدين هما البُعد الاقتصادي والبُعد الأمني، بوصفهما يشكلان معاً معياراً لقوة أو ضعف أي نظام سياسي، أو كما يقول الأستاذ الشرفاء: “ومن هذا المنطلق، فإنه لابد للأمة العربية – إذا أرادت أن تواجه القرن القادم، وتستعد له كما استعدت أوربا التي وضعت نُصب أعينها أهدافاً محددة وواضحة – أن تجعل الأمن المشترك، والتكامل الاقتصادي فيما بينها يعلو على كل الأنانيات الإقليمية الضيقة، لأنها إذا اتحدت وتكاتفت، ستصبح قوة يُحسبُ لها ألف حساب، ومن ثَم تستطيع أن تحقق لشعوبها استقراراً في المعيشة، ونمواً في الاقتصاد، وتطوراً في التنمية”.
أما الأجزاء الأخرى من هذه السلسلة، فهي مخصصة للقضية الأساسية لرسالة الشرفاء الفكرية، وأعني بها تصويب الخطاب الإسلامي، وفي هذا الصدد يُطالب الشرفاء بتصحيح مصطلح تجديد الخطاب الديني ليتفق مع مقاصد النداء الذي وجهه الرئيس السيسي منذ توليه السلطة ليكون تصويب الخطاب الإسلامي، لأن مصطلح تجديد الخطاب الديني يشمل كل الأديان السماوية ويمتد للعقائد الأخرى، ولتجنب الالتباس والغموض والخلط يجب أن نقول “تصويب الخطاب الإسلامي”.
وتصويب الخطاب الإسلامي ليس المقصود به الخطاب الإلهي المقدس، فالخطاب الإلهي المقدس، ونعني به القرآن لا يُجدد ولا يخضع للتصويب، لأنه ليس بقديم ولا تقادمت عليه الأزمنة والقرون وأصبح واجب التجديد، كلمات الله راسخة في الأرض والسماء وتتفاعل مع الأحياء وترشدهم لطريق النور حتى قيام الساعة. وتصويب الخطاب الإسلامي يعني لدى الشرفاء العودة لصحيح الدين، وتخليص الخطاب الديني الإسلامي من كافة المرويات والإسرائيليات والخرافات والأساطير التي شوهت الخطاب وانحرفت به عن الطريق الصحيح، فالتصويب معناه العودة للأصل النقي المطهر، العودة للحق، للكلمة الإلهية المقدسة وليس للكلمة الزائفة، كلمة البشر.
ويرى الشرفاء أن الله سبحانه وتعالى قد وضع أمامنا خارطة طريق واضحة لنهتدي بنورها إلى الطريق الصحيح عملاً بقوله سبحانه: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف 3)
والأمر الإلهي باتباع الطريق الصحيح والقويم يتكرر في كثير من الآيات: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 153)
ولقد علم الله بعلمه الأزلي بأن عباده سوف يهجرون القرآن، وسيؤدي ذلك إلى تفرقهم وتشرذمهم، ولذلك حذر الله عباده بعدم هجر القرآن من خلال الالتزام والتقيد بأحكامه وآياته ليحميهم من فتة التفرق. يقول الله في سورة الجاثية: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (الجاثية 6)
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف 43، 44)
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً} (النساء 87)
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء 122)
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 185)
إنه تحذير واضح وصريح من الله للمسلمين بعدم اتباع أي روايات أو أحاديث أو مرويات أو مفاهيم بشرية تخالف كلام الله وتتناقض مع آياته وأحكامه.
ويوضح علي الشرفاء أن هذا التأكيد على الالتزام بآيات الله ليس فيه أي نوع من القهر أو مصادره حق الإنسان في الحرية، فالإنسان لديه حق اختيار عقيدته وفقاً لحكم الله في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } (الكهف 29)
وقوله تعالى: { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر 15)
إن القرآن يُلزمنا فقط باتباع ما بلغ الرسول الأمين للناس من الآيات البينات وما تضمنته من تشريعات وعظات تمشياً مع القاعدة الإلهية في قوله سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{134} (البقرة 134)
ويرى الشرفاء أن أزمة المسلمين تتمثل في تعدد الخطاب الديني وتناقضاته وفقاً للمرجعيات المذهبية: الخطاب الوهابي، الخطاب الشافعي، الخطاب التكفيري، الخطاب الحنفي، الخطاب السلفي، الخطاب الجهادي، الخطاب الإخواني، الخطاب المالكي، الخطاب الحنبلي، الخطاب الأشعري، الخطاب الإباضي، الخطاب الشعي … إضافة إلى تعدد الخطابات والمرجعيات داخل كل خطاب من هذه الخطابات كل على حدة. فضلاً عن أن هذه الخطابات لا تعترف ببعضها البعض سواء من ناحية الأحكام أو التشريعات أو الروايات. وأمام تعدد هذه الخطابات فإن الأمر يبدو وكأنه يتطلب معجزة إلهية لتصويب مسار رسالة الإسلام.
ويبقى السؤال المُلح: كيف يتحقق حل تلك الإشكالية من أجل اتباع مرجعية واحدة تعتمد على خطاب واحد. إذ أنه من المستحل توحيد المرجعيات المذكورة، لذلك ينبغي اتباع خطاب واحد، يتحقق فيه ما ينفع الناس ويحمي حقهم في الحياة ويحقق لهم الأمن والاستقرار ويمنح الناس حرية الاختيار في عقائدهم وفي حياتهم.
إن هذا الخطاب الواحد هو الخطاب الإلهي، والذي اكتملت صورته في حجة الوداع، حيث يقول سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة 3)
خلاص المسلمين عند الشرفاء يكون بالعودة إلى النص المؤسس وهو القرآن. وعلى المسلمين أن يعودوا لكلمات الله المباركة أما كتب التراث والمرويات والإسرائيليات فيكون مكانها هو زوايا النسيان، لأن هذه الكتب هي التي عززت الفرقة بين المسلمين، وشجعت على الإرهاب على المسلمين وغير المسلمين، بل وحكمت على المسلمين بالردة عن الإسلام، وحكمت عليهم بالقصاص والقتل !
إن علي الشرفاء الحمادي يستهدف من وراء دعوته لتصويب الخطاب الديني إلى تحرير الإنسان العربي من كافة صور التبعية للآخر، لأنه سيوحد كلمة العرب ويخلصهم من التشرذم والطائفية البغيضة، وينقذهم من الإرهاب ومن التخلف والجمود، ولا شك أن تحرير الخطاب الديني من عباءة الفقهاء والدعاة، ومن صنمية التعلق بالمرويات والمرجعيات، ومن سلطة الخضوع للمؤسسات الدينية. كل ذلك سوف يؤدي بالضرورة إلى تحرير الإنسان العربي من التعصب، ومن الجمود والجاهلية، ومن الخوف من الآخر، ومن القلق ومن الإرهاب، بكلمة واحدة فإن شعار “تصويب الخطاب الديني” الذي يرفعه الأستاذ علي الشرفاء معناه إنقاذ الإنسان من محنته الحضارية والإنسانية بحيث يصبح قادراً على العيش والتفكير والاعتقاد بحرية، ودون قمع أو عبودية.